دعاوى إثبات النسب، من المسائل القضائية الشائكة، في ظل الالتباس بين الشرع والعلم في حسمها.
وسنناقش من واقع ملفاتنا قضية مهمة، طرفها امرأة ادعت أنها تزوجت رجلاً بعقد عرفي في دولة أوروبية، بحضور شاهدين، وأثمر هذا الزواج عن طفل وُلد هناك، لكن المدعى عليه ماطل في إثباته إليه.
وشهد النزاع شداً وجذباً بين الطرفين، إذ أكدت أنه طلب منها الانتظار حتى يجد حلاً لتوثيق زواجهما، في ظل أنه متزوج من أخرى، ولا يجوز له – حسب قانون تلك الدولة – الزواج بامرأتين.
فيما أنكر المدعى عليه وجود زواج من الأساس، مقرراً أنه كان يعرفها منذ فترة، وتربطهما علاقة صداقة، وانقطعت علاقتهما، لكنها بدأت تلاحقه وتدعي أنه والد طفلها على خلاف الواقع، بل طلب من الشرطة مساعدته في إبعادها عنه.
وبعد الاستماع إلى الشهود، ونظر المستندات التي قدمها الطرفان، أحالت المحكمة الدعوى للنيابة العامة لإبداء الرأي، ورأت النيابة ندب المختبر الجنائي لإجراء فحص البصمة الوراثية للطفل وطرفي الدعوى، لتحديد ما إذا كانا هما الأبوين البيولوجيين للطفل من عدمه.ورغم رأي النيابة العامة، انتهت المحكمة إلى رفض إجراء فحص البصمة الوراثية (DNA) لحسم هذه المسألة، مرتكنة إلى قانون الأحوال الشخصية، الذي ينص على أن النسب يثبت بالفراش (عقد الزواج الشرعي)، أو إقرار الأب، أو بالبينة الشرعية ـــ وهي كل ما يبين الحق ويظهره ـــ ويثبت أيضاً بالطرق العلمية، شريطة ثبوت الفراش، على أن يمضي على عقد الزواج الصحيح أقل مدة للحمل، وهي 180 يوماً، وألا يثبت عدم إمكان التلاقي بين الزوجين.
وهكذا ندرك أن اللجوء إلى الطرق العلمية المتمثلة في فحص المادة الوراثية، لا يمكن أن يتم دون وجود زواج شرعي، وهو ما لم تستطع المدعية إثباته في هذه القضية.
وربما يسأل سائل، لماذا قيد المشرع اللجوء إلى الطرق العلمية بهذا الشرط، طالما يمكن حسم الخلاف بفحص البصمة الوراثية؟
والإجابة أن الاعتماد على العلم فقط في هذه المسألة الحساسة، يفتح الباب أمام بعض الثغرات التي قد يلجأ إليها البعض في حالات بعينها باستغلال العلم أيضاً.
مثل قيام امرأة مطلقة بعملية تخصيب مستخدمة نطفة طليقها المحفوظة لدى أحد المراكز الطبية المتخصصة في ذلك، ومن ثم حملها من رجل انفصلت عنه شرعياً ورسمياً.
وبالمناسبة هذه حالة واقعية، انتقلت أيضاً إلى ساحات المحاكم، وتعكس حكمة المشرع بالاعتماد على الشرع والعلم في حسم هذه الدعاوى التي تتسم بالحساسية، رغم ندرتها، لأنها تتعلق بمصير أطفال لا ذنب لهم، وتؤكد أهمية حرص طرفي العلاقة الزوجية على توثيق تلك العلاقة، بما يضمن حقوق الآباء والأبناء.
وبشكل عام، ما يميز عملية التشريع في دولة الإمارات، هو خضوعها المستمر لعملية تحديث وتطوير، بما يتناسب مع المستجدات والاكتشافات العلمية، ويظل من الرائع دائماً الغوص في بحر القانون.
*محكم ومستشار قانوني
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news